من كمال الإيمان أن يأخذ الإنسان بالأسباب في أموره كلها؛ ثم يتوكل على رب الأسباب ويدعوه سبحانه وتعالى لكي يحقق له ما يسعى إليه. وهذا هو حق التوكل على الله، الذي قال فيه نبينا صلى الله عليه وآله وسلم: "لو توكلتم على الله حق التوكل، لرزقكم كما يرزق الطير.. تغدو خماصًا، وتروح بطانا".
وفي التشبيه النبوي بلاغة عظيمة، فغدو الطير من أجل الحصول على الرزق هو "سبب"، أما العطاء فمن الله الرزاق سبحانه وتعالى، والطير يغدو مُلهمًا من حيث لا يدرى، فالمؤمن إذا توكل على الله مع الأخذ بالأسباب، كان كالطير.. لا يدرى ما يتم به القضاء، ولا يتحدى نظام الطلب.
والتوكل بهذا المعنى هو دليل على حسن الإعتقاد في الله سبحانه وتعالى، لأن الله سبحانه وتعالى خلق الكون وفق نظام السببية، وجعل لكل شيء سبباً، وأودع فينا عقلًا لندرك تلك الأسباب ونأخذ بها ثم نتوكل على الله.
كما أن التوكل شرط من شروط الإيمان، ولازم من لوازمه ومقتضياته، فكلما قوِي إيمان العبد، كان توكله على الله أكبر، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل؛ قال الله - عز وجل -: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 122]، وفي الآية الأخرى: ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 84].
وتروي لنا السيرة النبوية الشريفة كيف علم الحبيب صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله صحابته التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب، حين جاء رجل على ناقة له فقال: يارسول الله: أدعها وأتوكل؟، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إعقلها وتوكل"، فأمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يربط ناقته بعقالها، ويتوكل على الله فى حفظها، وبذلك جمع بين التوكل وإتخاذ أسباب الحفظ، فلا يهمل بتركها غير مربوطة بحجة أنه متوكل على الله.
وهذا سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رأى أناساً يتكففون الناس في الحج، فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، فقال: كذبتم، المتوكل من ألقى حبة في الأرض ثم توكل على الله.
ورأي سيدنا عمر أعرابياً معه جمل أجرب، فقال له: يا أخا العرب ! ماذا تفعل بهذا الجمل الأجرب؟، قال: أدعو الله أن يشفيه، قال: يا أخي ! هلا جعلت مع الدعاء قطراناً –يعني علاج له-.
وللمتوكل على الله ثلاث درجات كما قال الإمام العارف بالله الدقاق رضي الله عنه، وهي: التوكل، ثم التسليم، ثم تفويض الأمر والنتيجة لله. فالتوكل صفه العوام من الناس، والتسليم صفة الخواص منهم، أما التفويض فهو صفة خواص الخواص.
والتوكل على الله سبحانه وتعالى من علامات حب الله سبحانه وتعالى لعباده، جاء في الحديث الشريف، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أربع لا يعطيهنَّ الله إلا مَن أحبَّ: الصمت وهو أول العبادة، والتوكل على الله، والتواضع والزهد في الدنيا".
وقال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "يا أيها الناس، توكلوا على الله، وثِقوا به؛ فإنه يكفي مما سواه".
وعندما نتأمل مقالة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - نجد أنه يربط التوكل بالثقة واليقين بالله، وإلاَّ فلا توكُّل ما لم يكن معه اليقين، واليقين هو أن العبد يعمل لله خالصًا، ولا يطلب به عرض الدنيا، ولا رضا المخلوقين، وأن يكون في نفس الوقت آمنًا بوعد الله، وهو الرزق.
فلا تتركوا الأخذ بالأسباب فإنه من كمال التوكل على الله، والسبيل إلى توفيقه سبحانه وتعالى، يقول تعالى على لسان نبي الله شعيب: ﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88].